-A +A
أسماء بوزيان (باريس) okaz_online@
تأتي زيارة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان لباريس غدا (الإثنين) بعد جولة ناجحة في الولايات المتحدة الأمريكية استمرت ثلاثة أسابيع، واعتبرها مراقبون سياسيون بمثابة نقطة تحول في السياسة الخارجية للمملكة تجاه شركائها الفاعلين على أكثر من مستوى، بدءا بطبيعة العلاقات مع الغرب خصوصا أمريكا ومساندتها لتوجه المملكة في المنطقة، وموقفها من القضايا التي تشكل المحور الإستراتيجي لمصالح البلدين، ووصولا إلى باريس التي تعتبر الحليف الثاني للمملكة في القضايا الإستراتيجية والمصالح المشتركة.

ولأهمية هذه الزيارة فقد بدأ قصر الإليزيه التحضير لها بعناية فائقة منذ شهر ونصف الشهر، إذ أوفد قبل نحو شهر إلى الرياض رئيس الأركان الخاص لإيمانويل ماكرون الأميرال برنارد روجل، لمناقشة المواضيع العسكرية، ثم أوفد إيمانويل بون مدير مكتب وزير الخارجية جان إيف لو دريان، وإيمانويل مولان مدير مكتب وزير الاقتصاد والمالية برونو لو مير، ومسؤولا آخر من الإليزيه.


وعلى الرغم من بعض التذبذب الذي ساد العلاقات السعودية - الفرنسية، ظل البلدان يحتفظان بخيط الصداقة الرفيع، خصوصا في القضايا الأمنية التي كانت فرنسا حريصة عليها في ما يتعلق باستتباب الاستقرار الأمني في الشرق الأوسط، وكان وعيها بالوضع الأمني في المنطقة سيما الانقلاب الحوثي في اليمن المدعوم من إيران، وهو الأمر الذي لم تستوعبه عواصم عدة إلا بعد أن استفحل الوجود الحوثي في اليمن وتدخل «حزب الله» في سورية وتهديد استقرار المملكة من قبل النظام الإيراني.

لقد استوعب الإليزيه الأسباب التي حملت السعودية على حشد «التحالف العربي» وشن عاصفة الحزم ضد جماعة الحوثي الانقلابية دفاعا عن أراضيها، وتقويضا لسياسة إيران في المنطقة، بينما لم تر إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في الحوثيين خطرا رغم علمهم بصفقة تحالفهم مع الإخوان المسلمين الممثلين لجبهة التجمع اليمني للإصلاح، الجبهة أو الحزب الذي ذكى نيران الحروب في اليمن التي خاضها الحوثيون مع الرئيس اليمني السابق المغتال علي عبد الله صالح، واستطاع هذا الحزب أن ينال من الشمال اليمني ويجعله بؤرة للتوتر.

أدركت المملكة حقيقة الوضع الخطير في اليمن عندما استوعبت الارتباط الوثيق بين الحوثيين وجماعات الإخوان المسلمين لبسط الهيمنة الكلية على اليمن بأسره، فبعد أن كان الإخوان يعيثون فسادا في صعدة وعمران، انتقل وباؤهم لمناطق يمنية أخرى ووضعوا اليد حتى على مناطق حوثية، وأصبحوا الحليف الودود للحوثي بعد أن استولوا على حزب الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي توفي في 2007. وبينما تخوض المملكة حربها على الحوثي لتدفع الخطر عن بلدها، رافعت فرنسا منددة بصواريخ الحوثيين على المملكة.

لعبة التوازنات

لم يكن صعبا على الدول الأوروبية مثل فرنسا، التي تستثمر في استقرار الخليج العربي والشرق الأوسط بعد أن استوعبت لعبة التوازنات ولعبة إيران في زعزعة استقرار البلد المحوري بالمنطقة (السعودية)، واستوعب أيضا الإليزيه أن إيران لا يؤتمن لها ولا لمشروعها التوسعي.

أدركت فرنسا الخطر الإيراني والخطر الحوثي الذي ينضوي تحت عمامة الملالي مهددا الأمن الإقليمي، وبعدها تأكدت إدارة واشنطن من علاقة الحوثي بالحرس الثوري وتنازلت عن المطالبة بإسقاط العقوبات عن الحوثيين، وعادت لصوابها بعد أن تأكدت أن ما يدور في اليمن هو نقطة البداية والحسم لإيران للوصول إلى أقاصي الأرض، وأن إستراتيجيتها لها تأثير مباشر على الأمن الإقليمي والعربي إذا لم يلجم.

كانت فرنسا قريبة جداً من توقعات المملكة، خصوصا في عهد فرانسوا هولاند، إلا أن بعض الرياح هبت على تلك العلاقة، لسوء فهم أكثره من الطرف الفرنسي، الذي أعتقد أن الجانب السعودي تراجع عن إبرام بعض الصفقات التي أعلن عنها حين ذاك رئيس الحكومة السابق إيمانويل فالس، أثناء زيارته إلى الرياض، حين قال المختص في شؤون الشرق الأوسط أوليفيه دا لاج أن «الخطأ لم يكن من الجانب السعودي، بل أن السعودية لم تعلن يومها عن تلك العقود التي قدرت بالملايين». وأضاف: «أنه عندما كان يتنقل الوزراء الفرنسيون إلى الرياض، كانوا يصطحبون الصحافة في نفس الطائرة ويصرحون لهم بأرقام الصفقات، ويفاجأ السعوديون بما يكتبه الإعلام الفرنسي والصحافة عن تلك الصفقات والمبالغ، وكأن الحكومة الفرنسية أنذاك أرادت أن تلوي ذراع السعوديين بوضعهم أمام الأمر الواقع».

وهو الأمر الذي لم تنجح فيه الحكومة الفرنسية آنذاك، ولم ترضخ السعودية لعملية لي الذراع.

هذه الخيبة التي انتابت عهدة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، شكلت نقطة تعثر في مسار الشراكة الاقتصادية بين الرياض وباريس، وطالما أن السعودية لم تعد إرسال «المصعد» على رأي الفرنسيين، فقد تعثرت العلاقة بين البلدين.

باختصار، عرفت الشراكة في مجال الاستثمارات حالة فتور تام لمدة ثلاث سنوات - أي منذ عام 2015، إذ أٌبرم عقدان بين السعودية وفرنسا بقيمة 193.5 مليون، و764 مليون يورو فقط من أجل شراء معدات عسكرية - بعيدا جدا عما حققته فرنسا من مبيعات عام 2013 (1.9 مليار) و2014 (3.6 مليار دولار).

واستمر الوضع كذلك إلى أن جاء ماكرون إلى قصر الإليزيه، وبدأت العلاقة تعود بعض الشيء إلى نصابها، وعاد الحديث عن تطابق في وجهات النظر بين البلدين في قضايا المنطقة الشائكة، ألا أن تمسك إيمانويل ماكرون بانحيازه في الملف الإيراني، توجس منه السعوديون، ولكن لم يدم ذلك طويلا، فعاد الحديث عن تحريك العلاقات السعودية - الفرنسية عقب زيارة ماكرون إلي الرياض، واتسمت أكثر بالليونة بعد أن ورطت إيران نفسها في شبه أزمة دبلوماسية مع باريس إثر التلاسن الذي حدث بين الجانبين حول الأزمة اللبنانية وحزب الله، وطلب فرنسا من طهران عدم التدخل في لبنان وسورية.

التوجه الفرنسي - السعودي في صنع السلام بالشرق الأوسط وإصرارهما على تقويض سياسة الإرهاب في المنطقة صوبت دبلوماسية البلدين، واستطاعت السعودية أن تعيد حليفها الدائم إلى ضيافتها وأن تنتزع الاعتراف بقوة سياستها في إدارة ملفات المنطقة رغم عدم تطابق الرؤى في بعضها كالملف اللبناني.

«حملة الفساد» ضامن للاستثمار

رغم أن العلاقات السعودية ــ الفرنسية لم تكن في أوجها في السنوات الأخيرة، إلا أن باريس تجد في المملكة شريكا إستراتيجيا واقتصاديا، بينما ترى الرياض في باريس حليفاً مفضلاً في حربها ضد التطرف بشتى أشكاله في المنطقة.

التحوّل الفرنسي الكبير في مجال فهم ما يدور في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتم إلا بتنسيق مباشر مع الحليف الإستراتيجي والإقليمي وهو المملكة. وقد استوعبت فرنسا أهمية الرياض ودورها في المنطقة واستوعبت أكثر المرحلة الجديدة التي تنتهجها المملكة في ظل الإصلاحات التي يقوم بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان سواء على مستوى الداخل السعودي أو في الخارج. ومهما قيل في الصحافة الفرنسية عن تلك الإصلاحات، خصوصا في ما يتعلق بحملة الأمير الشاب ضد الفساد التي مست كبار رجال الأعمال المستثمرين في قطاعات فرنسية مهمة، إلا أن تطهير الاقتصاد السعودي من الفساد أثار الكثير من التعليقات التي وصفت الخطوة بالجريئة والشجاعة، وبالخطوة التي ستقلب صفحة جديدة في السعودية. ورغم ما أثاره بعض المشككين حول إصلاحات محمد بن سلمان وفتح اقتصاد المملكة على استثمارات أجنبية، إلا أن الكثير من المختصين والمراقبين يرون في حملته ضد الفساد ضامن نجاح أكبر في المستقبل للمستثمرين الأجانب الذين يودون الاستثمار في قطاعات مفتوحة بالمملكة بشروط النزاهة والشفافية.

تقارب استثماري دبلوماسي

التحولات الإقليمية التي تشهدها المنطقة أثبتت أن التوجه السياسي الذي تنتهجه المملكة كبلد محوري ولاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه، وإذا كان التاريخ يحفظ بعض المواقف للمملكة، فإنه يذكرنا أن التقارب السعودي الفرنسي إستراتيجي ومحوري، ولا شك أنه من المهم أن يكون ذلك التقارب بين البلدين، لأن السياسات الدولية غير مستقرة على حال، وقد أثبت التاريخ أن التوجهات متغيرة وأن السياسات تشتغل باتجاه بوصلة المصالح، وخير مثال على ذلك ما حدث في عهد الرئيس التاسع والثلاثين لأمريكا، جيمس كارتر، حين أحجم عن إبرام صفقات مع المملكة، وتوجست الرياض آنذاك في نوايا واشنطن، فعادت واستعانت بالرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان الذي أبرم معها العديد من العقود الأمنية.

وما زال التاريخ يذكرنا أيضا بكثير من المواقف في العلاقات السعودية ــ الفرنسية التي تبرهن عن عمقه، إذ دفع التزام فرانسوا ميتران مع لبنان وياسر عرفات إلى خطابه الشهير أمام الكنيست الإسرائيلي، وكانت فرنسا تعرف أزمة اقتصادية حادة، فقاد موقف ميتران السعودية إلى مراجعة حكمها على فرنسا وقدمت ضمانات مالية كبيرة لبلده في الوقت الذي كان فيه الفرنك يشهد تراجعا حادا في البورصات العالمية.

المختصون يرون أن فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون والسعودية في عهد الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان يحاولان استعادة هذا الارتباط بين البلدين بعد هذه السنوات من الفتور.

لكن فرنسا ليست مجرد خيار افتراضي، بل هناك أسباب تبرر هذا التقارب، خصوصا المواقف الفرنسية في الشرق الأوسط ومساندتها لخيارات المملكة الإستراتيجية. ومع كل الاختلافات في بعض القضايا، فإن فرنسا تظل شريكا وحليفا مهما للمملكة في مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله، وهما في جوهر العلاقات الثنائية بين البلدين.

وقد نددت فرنسا بممارسات الحوثي وإطلاقه صواريخ على السعودية، واعتبرت ذلك انتهاكا للأمن الداخلي للمملكة، وصرح وزير أوروبا والخارجية الفرنسية إيف لودرايان، أن بلده يقف إلى جانب السعودية في وجه التهديدات التي تواجهها، مجددا دعم فرنسا لأمنها واستقرارها، ومؤكدا ضرورة عودة الأطراف اليمنية إلى طاولة المفاوضات.

الحليف القوي

لا تزال فرنسا تحتفظ بمكانتها في الشرق الأوسط، إذ تتمتع بنفوذ كبير، كونها عضوا في مجلس الأمن وبلدا مصنعا للسلاح، لذلك فهي شريك مثير للاهتمام لدول الخليج والعالم العربي، ولكن قبل هذا وذاك فهي الشريك المميز للسعودية، وكانت فرنسا أولى البلدان الغربية التي وطدت علاقاتها مع الرياض عندما عرفت العلاقات السعودية ــ الأمريكية بعض الهشاشة.

ولذلك سعت فرنسا والمملكة إلى تعزيز تلك العلاقات الثنائية التي تعمقت في عهد فرانسوا هولاند ولوران فابيوس، إلا أنها بدأت تتوتر بعد الأزمة اللبنانية، وكذلك صعود التوتر السعودي ــ الإيراني، الذي فضل فيه الإليزيه انتهاج سياسة عدم الانحياز، وهو الأمر الذي أغضب الرياض. إلا أن الأمر لم يدم طويلا، بعد التهديدات التي وجهها روحاني لفرنسا إثر أزمة لبنان، مهددا أوروبا بوصول صواريخه إليها. ولم تعتمد السعودية في علاقاتها الخارجية والثنائية على بلد واحد، بل سعت دائما لتنويع علاقاتها وشراكاتها ورغم أنها تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة في وسائل دفاعها الأمني، إلا أنها تحتفظ بشركاء آخرين مقربين كفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا والصين وروسيا.